الخميس، 26 نوفمبر 2015

المركزية الإدارية

المبحث  الأولالمركزية الإدارية.


·       تعريفها:
 يقصد بالمركزية الإدارية قصر الوظيفة الإدارية في الدولة على ممثلي الحكومة في العاصمة وهم وزراء دون مشاركة من هيئات أخرى. فهي بالتالي تقوم على توحيد الإدارة و جعلها تنبثق من مصدر واحد مقره العاصمة.[1]


ففي ضوء النظام المركزي تباشر السلطة المركزية الشؤون الوطنية و المحلية عن طريق ممثليها في العاصمة. فهي إذن تقوم على استقطاب السلطات الإدارية وتجميعها في يد شخص واحد أو هيئة واحدة.
غير أنّه لا ينبغي أن يفهم من أنّ تركيز السلطة يعني عدم تقسيم أراضي الدولة إلى أقسام إدارية على أسس جغرافية أو اجتماعية أو تاريخية. ذلك أنّه لا يمكن تصور قيام الدولة بتسيير شؤون كل أجزاء الإقليم عن طريق جهازها المركزي وحده، بل لا مفر من توزيع العمل على إدارتها المختلفة.غاية ما في الأمر أن ّهذه الوحدات تباشر عملها تحت إشراف مباشر وكامل للسلطة المركزية وليس لها وجود ذاتي و قانوني مستقل.

·       أركانها:
 من المفهوم السابق ذكره نستنتج أنّ النظام المركزي يقوم على دعامتين هما: تركيز السلطة بين يدي الإدارة المركزية، وخضوع ممثلي الحكومة للسلطة الرئاسية.

أولاتركيز السلطة الإدارية بين أيدي الإدارة المركزية.
طالما استأثرت الإدارة المركزية في العاصمة بكل السلطات المخولة لها إداريا، فإنّه يترتب على ذلك تجريد أعوان الإدارة في مختلف الأجهزة و النواحي من سلطة القرار و التفرد به. وهذا لا يعني أن يقوم الوزير المختص بكل صغيرة وكبيرة في إقليم الدولة لأن هذا الأمر من المحال تحقيقه في أرض الواقع العملي، بل القصد من ذلك أن يتولى الإشراف و الهيمنة على معاونيه مهما اختلفت مستوياتهم، وسواء وجدوا في العاصمة أو في بقية أجزاء الإقليم.

ثانيا:  خضوع موظفي الحكومة المركزية لنظام السلم الإداري و السلطة الرئاسية.
طالما كانت مجموع الوحدات الإدارية و المرافق مرتبطة أشد الارتباط بالإدارة المركزية خاضعة لقرارها و سلطتها، فإن هذا الخضوع و السلطة يتجسد في سلم إداري يعلوه الوزير الذي يملك سلطة التعيين و يحتل فيه الموظف مرتبة المرؤوس أو التابع. وهذه السلطة الرئاسية من شأنها أن تجعل للرئيس هيمنة تامة على أعمال المرؤوس فيكون له حق المصادقة عليها أو إلغائها أو تعديلها أو استبدالها دون أن يكون للمرؤوس حق الاعتراض. كما يملك الرئيس الإداري أي الوزير سلطة إدارية على الشخص المرؤوس أو الموظف تبدأ بتعيينه وتتواصل طوال  مساره الوظيفي لتمس سلطات أخرى كالنقل و الترقية و التأديب. وهو ما يجعل في النهاية المرؤوس خاضعا في شخصه وأعماله للرئيس الإداري. ونتيجة لهذه السلطة المزدوجة التي يمارسها الرئيس على المرؤوس استقر قضاء مجلس الدولة الفرنسي على عدم قبول دعوى الإلغاء التي يرفعها المرؤوس ضد أعمال يقوم بها الرئيس الإداري واستثنى من ذلك القرارات التي تمس الجانب الوظيفي (التأديب، الحرمان من الترقية...).

ماذا يقصد بالسلطة الرئاسية؟
يقصد بالسلطة الرئاسية مجموعة من السلطات يتمتع بها كل رئيس في مواجهة مرؤوسيه من شأنها أن تجعل هؤلاء يرتبطون به برابطة التبعية والخضوع. وليست السلطة الرئاسية امتيازا أو حقا مطلقا للرئيس الإداري، وإنما هي اختصاص  يمنحه القانون رعاية للمصلحة العامة و حسن سير المرافق العامة.[2]

 الأساس القانوني لفكرة السلطة الرئاسية:
عادة ما تعترف القوانين و اللوائح للرؤساء بممارسة اختصاصات على المرؤوسين وأعمالهم أيضا وذلك بغرض ضمان عمل إداري أفضل.
مثال من القانون الجزائري
إنّ قراءة عابرة لنص المادة 17 من الأمر رقم  66/133. المؤرخ في 02 جوان 1966 المتضمن القانون الأساسي للوظيفة العامة الجزائري تجعلنا أمام قناعة أنّ المشرّع الجزائري رسّخ فكرة السلطة الرئاسية على المستوى الوظيفي فجاء في المادة المذكورة " إن كل تقصير في الواجبات المهنية وكل مس بالطاعة عن قصد وكل خطأ يرتكبه الموظف في ممارسة مهامه أو أثناءها يعرضه إلى عقوبة تأديبية دون الإخلال عند اللزوم بتطبيق قانون العقوبات". وتمّ ترسيخ فكرة السلطة الرئاسية أيضا في المادة 19 من نفس القانون التي جاء فيها: " كل موظف مهما تكن مرتبته في التسلسل الإداري مسؤول  عن تنفيذ المهام التي تناط به ". وفي المادة 20: " يجب على الموظف أن يحترم سلطة الدولة".
وذات الروح تمّ تأكيدها في القانون الأساسي العام للعامل 1978 حيث جاء في المادة 27: " ينبغي على العامل مهما كانت رتبته في التنظيم السلمي أن يقوم بجميع المهام المرتبطة بمنصبه بوعي و فعالية مع مراعاة القانون و الأحكام التنظيمية و الانضباط و التعليمات السلمية".
وتكرس المبدأ في المادة 36 من القانون أعلاه " ينفذ العامل بكل ما لديه من إمكانية مهنية جميع التعليمات المتعلّقة بالعمل الذي يتسلمه من الأشخاص المؤهلين سلميا ". وتكرر في (المادة 29، 31، 33..). ولم تحد أحكام المرسوم 85- 59 المؤرخ في 23 مارس 1985 المتضمن القانون الأساسي النموذجي لعمال المؤسسات و الإدارات العامة عن فكرة السلطة الرئاسية بل تضمنتها مواد عديدة (26، 28، 54، 112، 122).
ولمثل هذا التوجه ذهب  المرسوم التنفيذي رقم 89 -224 المؤرخ في 5 ديسمبر المتضمّن القانون الأساسي الخاص المطبق على العمال المنتمين إلى الأسلاك المشتركة للمؤسسات و الإدارات العمومية المعدل و المتمّم.  فأقرت المادة 16 منه بوضع المتصرف الإداري (كموظف إطار) تحت السلطة السلمية. وذهبت المادة 32 من نفس المرسوم بوضع المساعد الإداري تحت السلطة السلمية.
و تكرس ذات المبدأ (مبدأ السلطة الرئاسية) في مواد كثيرة من نفس المرسوم كالمادة 39 التي حددت مهام كتاب المديرية، و المادة 46 التي حددت مهام المعاونين الإداريين. و المادة 49 التي حددت مهام الأعوان الإداريين. والمادة 66 التي حددت مهام المترجمين، و المادة 76 التي حددت مهام المحاسبين، و المادة 96 التي حددت مهام المهندسين التطبيقيين. و المادة 109 التي بينت مهام التقنيين في الإحصاء و التقنين السامين.و المادة 116 التي وضحت مهام سلك المعاونين التقنيين. والمادة 119 التي ضبطت مهام سلك الأعوان التقنين والمادة 127 التي حددت مهام محللي الاقتصاد. و المادة 133 التي بينت مهام المهندسين في الإعلام الآلي و غيرها من النصوص كثير.
وأخيرا صدر الأمر رقم 06 – 03 المؤرخ 15 جويلية 2006 المتضمن القانون الأساسي العام للوظيفة العمومية المنشور في الجريدة الرسمية رقم 46 بتاريخ 16 جويلية 2006 ليكرس مبدأ السلطة السلمية كآلية من آليات التنظيم الإداري. وهو ما يتجلى بوضوح في المادة 24 و المادة 40 و المادة 44 و47 و 48 ومواد أخرى كثيرة.
ومما لاشك أن القوانين الأساسية لقطاعات النشاط المختلفة التابعة للوظيفة العمومية و التي يجري حاليا التحضير لها لإعداد النصوص الخاصة بكل قطاع سوف لن تحيد عن إقرار مبدأ السلطة السلمية لربط الموظف تنظيما ورئاسيا بالجهاز الإداري التابع له.
ومن جميع هذه النصوص و غيرها نستنتج أنّه لا يمكن للإدارة العامة أن تمارس مهامها كتلة واحدة، بل في شكل تسلسل وظيفي يحتوي على رئيس ومرؤوس تتولى القوانين و التنظيمات تنظيم العلاقة بينهما. وذلك بالاعتراف للرئيس الإداري بممارسة صلاحيات معينة في مجال التعيين و التثبيت و الترقية والإحالة على الاستيداع و الانتداب و التأديب. وصلاحيات أخرى تخص الأعمال التي يقوم بها المرؤوس. ومنها يتضح أن لفكرة السلطة الرئاسية أساس قانوني إلى جانب أنّ لها أساسها فني و علمي و سياسي.
ملاحظة يمكن الاستشهاد بمواد أخرى من قوانين عربية مختلفة لكن في نفس الموضوع

مظاهر السلطة الرئاسية:
 من التعريف السابق نستنتج أن السلطة الرئاسية تخول الرئيس جملة من الاختصاصات على أشخاص مرؤوسيه و البعض الآخر على أعمالهم.
سلطة الرئيس على شخص المرؤوس: و تتجلى في سلطة الرئيس في تعيين المرؤوس و ترقيته و نقله و تأديبه، ولما كانت هذه السلطة ليست امتيازا للرئيس وإنما هي نوع من الاختصاص يمارسه في حدود القانون، فإنه من حق المرؤوس أن يتظلم إداريا من قرارات الرئيس الإداري وأن يطعن فيها قضائيا متى أصيبت بعيب إساءة استعمال السلطة.

سلطات الرئيس على أعمال مرؤوسيه: إلى جانب ما يتمتع به الرئيس الإداري من سلطة على شخص المرؤوس يملك سلطة أخرى تتعلق بأعماله. وتأخذ هذه الاختصاصات مظهرين. فالبعض منها يمكن رده إلى سلطة الرئيس في توجيه مرؤوسيه، والبعض الآخر يعود إلى حقه في ممارسة الرقابة على هذه الأعمال.

أولا: سلطة التوجيه.
ويقصد بها ملاحظة جهود العاملين بغية توجيهها الوجهة السليمة عن طريق الأوامر و التعليمات و الإرشادات الشفهية و الكتابية. أو كما عرفها الدكتور عمار عوابدي " عملية إدارية تتحقق عن طريق التدخل الدائم و المطرد لمراقبة وملاحظة أعمال العاملين العامين المرؤوسين من قبل رؤسائهم الإداريين وتوجيه جهودهم، ودفعهم نحو التزام الأساليب الصحيحة".[3]
ولا شك أنّ عملية التوجيه تلعب دورا بارزا في تقوية العلاقة بين الرؤساء والمرؤوسين، كما تمكن الطائفة الأولى من التحكم في القدرات البشرية للإدارة العامة، و السيطرة على جميع الجهود التي تتوافر عليها المنظمة الإدارية.
و الحديث عن سلطة التوجيه التي يتمتع بها الرؤساء الإداريين تسوقنا إلى ذكر واجب الطاعة ورسم حدوده القانونية.

واجب الطاعةسبق القول أنّ الرئيس الإداري يملك سلطة إصدار الأوامر والتوجيهات لمرؤوسيه، ولا يملك هؤلاء إلا تنفيذها. وتنفيذ هذه الأوامر والتوجيهات يطرح إشكالا قانونيا في غاية من العمق يتمثل: هل يلزم المرؤوس وفي جميع الحالات بتقديم واجب الطاعة و تنفيذ أوامر الرئيس حتى ولو كانت في متنها وموضوعها مخالفة للقانون أو يلزم باحترام تنفيذ الأوامر القانونية دون غيرها؟
إن الإجابة على هذا التساؤل تقتضي التمييز بين الأوامر المشروعة و الأوامر الغير مشروعة.

أ- أوامر الرئيس المشروعة: إذا كان الأمر صادر من الرئيس الإداري يتماشى في موضوعه مع مقتضيات القانون فلا شك أن طاعة المرؤوس له واجبة. غير أنّ ذلك لا يمنع المرؤوس من أن يناقش رئيسه الإداري و يراجعه بشأن مسألة معيّنة في حدود أخلاقيات الوظيفة، وهذا أمر أكده القضاء الإداري المصري. ففي حكم صادر عن مجلس الدولة المصري جاء فيه: " لا تثريب على الموظف إن كان معتدا بنفسه واثقا من سلامة نظرة شجاعا في إبداء رأيه صريحا في ذلك أمام رئيسه لا يداور و لا يرائي مادام لم يجانب ما تقتضيه وظيفة من تحفظ ووقار وما تستوجبه علاقته برئيسه من التزام الأدب و اللياقة و حسن السلوك...".[4] ولقد رأى الفقهاء أنّ أفضل مرحلة لإبداء الرأي تكون من جانب المرؤوس قبل إصدار القرار أي مرحلة التمهيد أمّا إذا صدر القرار فإنّ تنفيذه واجب من جانب المرؤوس  و ليس أن يعرقله وأن يقف ضد تنفيذه.

ب- أوامر الرئيس المخالفة للقانون:  إذا كانت الفرضية الأولى (الأوامر المشروعة) لم تحدث إشكالا قانونيا كبيرا في الفقه، فإنه خلاف ذلك أثارت الأوامر الغير مشروعة جدلا على مستوى الفقهي نوجز هذا الخلاف فيما يلي:

الرأي الأولالأوامر الغير مشروعة ليست ملزمة للمرؤوس.  إذا بادر الرئيس الإداري إلى اتخاذ أوامر منافية في مضمونها للقانون فلا يلزم المرؤوس بتنفيذها لأنه إذا خالف الأول أي الرئيس القانون فليس للثاني أي المرؤوس أن يتبعه. وقد تبنى هذا الرأي الفقيه    DUGUITواستثنى فقط طائفة الجنود فرأى أنّ من واجبهم تنفيذ الأوامر الصادرة إليهم من جانب رؤسائهم دون أن يكون لهم الحق في مناقشتها لأنّ الجندي هو آلة للإكراه محرومة من التفكير كما يقول ديجي.[5]
ولقد تأثّر القضاء المصري بهذا الرأي بالنسبة لموظفي الجيش و الشرطة إذ ذهبت محكمة القضاء الإداري في حكم لها صدر في 10 جانفي 1955 أنّه ليس من الجائز في النظم العسكرية الامتناع من تنفيذ الأوامر متى كانت صادرة ممن يملكها، وإنما يتظلم منها بالطريق الذي رسمه القانون. إذ لو أبيح لكل من يصدر إليه أمر أن يناقش مشروعيته و سببه وأن يمتنع عن تنفيذه متى تراءى له ذلك لأختل النظام وشاعت الفوضى...[6]
ولا خلاف أن العمل بهذا الرأي ينجم عنه المحافظة عن مبدأ المشروعية و السعي إلى إعدام وإبطال مفعول الأوامر التي تجانب القانون. غير أنّه يعاب عنه أن تجسيده في أرض الواقع يؤدي إلى تعطيل الجهاز الإداري و عرقلة سيره و تخويل المرؤوس سلطة فحص و تقدير أوامر الرئيس الإداري و الامتناع عن تنفيذها إذا ما اقتنع بعدم مشروعيتها. وهو ما يزعزع مبدأ السلطة الرئاسية و يخل بالتنظيم الإداري.

الرأي الثاني: الأوامر الغير مشروعة ملزمة للمرؤوس.
وذهب مناصروه إلى القول أنّ المرؤوس ملزم بتنفيذ الأوامر الصادرة عن رئيسه الإداري ولو كانت غير مشروعة فليس له أمر فحصها وتقديرها أو محاولة عرقلة تنفيذها. وقد تبنى هذا الرأي الفقيه موريس هوريو الّذي أعطى أولوية لعنصر الطاعة على مبدأ المشروعية. ووجه هذا الفقيه انتقادا كبيرا للرأي الأول و قال  إنّ تطبيقه في الواقع العملي ينجز عنه انتشار ظاهرة الفوضى في المرافق والمؤسسات العامة. كما أنه يجعل المرؤوس بمثابة قاض للمشروعية يخول صلاحية فحص أوامر رئيسه.

 الرأي الثالثالأوامر الغير مشروعة ملزمة في حدود معينة.
ذهب اتجاه وسط تصدره القضاء الفرنسي و تبناه الفقه الألماني إلى محاولة التوفيق بين الرأي الأول و الثاني. فوضع مبدأ عاما يقضي بتنفيذ أوامر الرئيس متى كانت مكتوبة واضحة دقيقة محدّدة عندها يلزم بتنفيذها. على أن يتأكد من أن الأمر صادر عن سلطة مختصة وأن تنفيذه يدخل في نطاق اختصاصه. وتبعا لهذا الرأي فإن الأضرار التي تنجم عن تطبيق هذا الأمر يتحملها المرفق لا الموظف.  
     
موقف المشرّع الجزائري من الآراء الفقهية السابقة:
جاء في المادة 129 من القانون المدني (الأمر 75-58): " لا يكون الموظفون و العمال العاملون مسئولين شخصيا عن أعمالهم التي أضرت بالغير إذا قاموا بها تنفيذا لأوامر صدرت إليهم من رئيس متى كانت إطاعة هذه الأوامر واجبة عليهم ".
وجاء المادة ذاتها بعد التعديل المقرر بموجب القانون 10.05 المؤرخ في 20 جوان 2005: " لا يكون الموظفون و الأعوان العموميون مسئولين شخصيا عن أفعالهم التي أضرت بالغير إذا قاموا بها تنفيذ لأوامر صدرت إليهم من رئيس متى كانت إطاعة هذه الأوامر واجبة عليهم ". و عند المقابلة بين المادة القديمة و الجديدة يتبين لنا أن المشرّع في النص الجديد حذف مصطلح عامل لكونه مصطلحا مستعملا في نطاق قانون العمل مقتصرا في التعديل على مصطلح الموظف و العون العمومي لأن الأمر يتعلق بمسؤولية الدولة عن أعمال موظفيها. بينما تخضع المسؤولية في القانون الخاص (مجال تطبيق قانون العمل) لأطر مخالفة تماما عن الأولى (مسؤولية المتبوع من عمل التابع).
ولقد سجل الدكتور عمار عوابدي على هذه المادة الاقتضاب الشديد الشيء الذي يصعب معه تحديد موقف المشرّع، ورغم ذلك ذهب القول: " إن المشرّع يميل إلى ترجيح الخضوع و الطاعة لأوامر و تعلميات الرؤساء الإداريين و التقيّد بها وتنفيذها و تغليبها على واجب طاعة القانون و حماية شرعية العمل الإداري. أي أنه يعتنق مبدأ أولوية حب طاعة أوامر السلطة الرئاسية على واجب احترام القانون ".[7]
واستدل الدكتور عوابدي بنص المادة 19 من القانون الأساسي للوظيفة العامة في صياغتها القديمة لسنة 1966.
وإن كنّا نؤيّد الدكتور عمار عوابدي و نسجل ما سجله على المادة 129 من غموض كبير و عدم وضوح، إلا أننا لا نؤيده في تحليلها خاصة وان عبارة "متى كانت إطاعة هذه الأوامر واجبة عليهم " الواردة في النص، وكأنّ المشرّع وضعها لنستدل منها أنّ الموظف فقط يلزم بإطاعة الأوامر  المشروعة لأن الأوامر غير المشروعة ليست ملزمة له، وليس من واجبه تنفيذها.
ومن ثمّ نصل إلى نتيجة مخالفة للّتي وصل إليها الدكتور عوابدي و هي أولوية تطبيق القانون على الأوامر الغير مشروعة.
ملاحظة يمكن الاستشهاد بمواد أخرى من قوانين عربية.

ثانياسلطة الرقابة و التعقيب.
وتتيح هذه السلطة للرئيس الإداري القيام بمجموعة صلاحيات فهو من يتولى إجازة عمل المرؤوس ويملك سلطة تعديله و إلغائه و سحبه. كما يملك سلطة في الحلول محله للقيام بأعمال معينة نفصل ذلك كله.
أ- سلطة الإجازة أو المصادقة: 
وتتمثل في حق الرئيس الإداري في إجازة و إقرار أعمال مرؤوسه. وقد يكون الإقرار ضمنيا يستدل من خلال سكوت الرئيس بالتعبير عن إرادته صراحة خلال مدة زمنية معينة مما يدل على إقراره وإجازته للعمل بصفة ضمنية. كما قد يكون صريحا بصدور قرار أو مقرر من الرئيس يجيز فيه ويصادق على عمل المرؤوس.

ب- سلطة التعديل:
يملك الرئيس الإداري حق تعديل تصرفات وأعمال مرؤوسيه بهدف جعلها أكثر مسايرة للقانون، وحسب ما تستوجبه ظروف و طبيعة العمل الإداري. فيجوز للرئيس الإداري تغيير ما يراه مناسبا. وسلطة التعديل تنصرف لتمس الأعمال غير مشروعة و الأعمال المشروعة أيضا. وفي هذا النوع الثاني من الأعمال يفترض أن تبادر السلطة المركزية أولا إلى إلغاء الأعمال المشوبة بعيب في المشروعية.

ج- سلطة الإلغاء:
ويقصد بها قيام السلطة الإدارية المختصة بالقضاء على أثار القرارات الإدارية وإعدامها بأثر فوري بالنسبة للمستقبل فقط مع ترك أثارها الماضية قائمة. فالمركز السامي للسلطة الإدارية يفرض عليها أن تسارع إلى إعدام القرار الإداري إذا قدرت عدم مشروعيته و مخالفته للقوانين و الأنظمة، كما يجوز لها إلغاء الأعمال المشروعة أيضا لاعتبارات تمس جانب الملائمة و ظروف و معطيات العمل الإداري. لذلك ميز الفقه بين الإلغاء الإداري للقرارات الإدارية و الإلغاء القضائي، فالنوع الأول يشمل القرارات الغير مشروعة و القرارات المشروعة، بينما الإلغاء القضائي يقتصر على الأعمال و القرارات الغير مشروعة.


د- سلطة السحب: ويقصد بها إزالة وإنهاء الآثار القانونية للمقررات والتصرفات الإدارية و إعدامها بأثر رجعي بالقضاء على آثارها في الماضي والمستقبل.[8] و نظرا لما للسلطة السحب من آثار بالغة الخطورة فقد قيدت ممارستها بتوافر شرطين:
1- من حيث الموضوع: يجب أن يشمل السحب فقط القرارات و الأعمال غير المشروعة[9] لأن هذه الأخيرة لا يمكن أن تولد حقا وأن تنشئ مركزا قانونيا مكتسبا. و مثل ذلك أن يصدر القرار عن غير ذي مختص أو أن يحتوي على مخالفة صريحة للقانون أو التنظيم.
2- من حيث المدة: يجب أن تمارس سلطة السحب خلال مدة زمنية معينة، فإن تجاوزها اكتسب حصانة ضد السحب و المدة المقررة  تختلف من تشريع لآخر.

هـ- سلطة الحلولالأصل العام و طبقا لمبدأ توزيع الاختصاص يتولّى كل شخص إداري القيام بالمهام المنوطة به، غير أنه في مواضع وحالات معينة يملك الرؤساء الإداريين سلطة الحلول محل مرؤوسيهم بحكم مالهم من هيمنة على هؤلاء و أعمالهم كما بينا.[10]


صور المركزية الإدارية:
إنّ المركزية الإدارية تختلف صورتها أحيانا بين الحصر للسلطات بشكل مطلق وهو ما يعبر عنه الفقهاء بالتركيز الإداري و بين تخويل بعض السلطات للممثلين على مستوى أجزاء الإقليم وهو ما يعبر عنه بعدم التركيز الإداري.

1- التركيز الإداري: و يسميه البعض بالتركيز المطلق أو المركزية الوحشية. ويقصد به أن تتركز السلطة الإدارية في جزئياتها و عمومياتها في يد الوزراء في العاصمة حيث يجرد كل ممثلي الأقاليم و الهيئات من سلطة القرار و يتحتم عليهم الرجوع للوزير المختص في كل شأن من شؤون الإقليم أو المرافق. ولاشك أنّ الأخذ بهذا النمط من التنظيم و الأسلوب الإداري من شأنه أن يحدث حالة من الاختناق نتيجة تراكم الملفات و انتظار الحسم فيها من قبل الوزير المعني، وما ستأخذه هذه العمليات من وقت طويل مما ينعكس سلبا على الجمهور المعني بالخدمة.

2- عدم التركيز الإداري: و يسميه البعض بالمركزية النسبية وقد ظهر هذا الأسلوب نتيجة مساوئ الصورة الأولى (المركزية المطلقة). وعدم تمكن الوزير على أرض الواقع من التحكم في كل صغيرة وكبيرة تحدث في كل جزء من إقليم الدولة. ومما زاد في حدة هذه المشكلة هو تطور الحياة و تعقدها و كثرة اتصال الجمهور بالإدارة  لقضاء مصالحهم، مما استحال معه عرض كل الطلبات على الوزراء المعنيين نظرا لعدم تمتع ممثلي الأقاليم بسلطة القرار. لذا كان من اللازم أن يخول بعض الموظفين سواء في الوزارة نفسها أو داخل الإقليم صلاحية اتخاذ القرار دون حاجة للرجوع للوزير المختص. كما أنه قد تعهد الصلاحية نفسها للجنة يتم إحداثها لهذا الغرض.
غير أنّه لا ينبغي أن يفهم بأن تمتع ممثلي الأقاليم أو اللجنة الخاصة بسلطة القرار تعني الاستقلال و الانفصال التام عن السلطة المركزية، بل إنّ سائر ما يقوم به ممثل الحكومة على مستوى الإقليم أو ما تقوم به اللجنة يتم تحت إشراف الوزير المختص. لذا فإنّ هذا الأسلوب من التنظيم الإداري لا يخرج عن كونة تفويض اختصاص أي أن الوزير فوض أحد مرؤوسيه للقيام ببعض الصلاحيات المنوطة به تخفيفا من أعباء السلطة المركزية ومنعا لاختناق العمل الإداري.
فعدم التركيز الإداري كما يقول (charles Brunقضية بين الدولة وعمالها أو موظفيها و هو يؤدي إلى اقتصاد في النفقات وإلى وضوح  في العمل وتوحيد لنمطه و لا يترتب عليه أبدا الاعتراف باستقلال الوحدات الإدارية ولكن فقط ينقل موقع سلطة القرار. لذلك قال (Odillon Barrot)إننا دائما أمام نفس المطرقة التي تضرب و لكن مع تقصير في اليد الضاربة.[11]
ولا جدال أن نظام عدم التركيز الإداري وإن بات يشكل ضرورة لازمة لتنظيم الدولة نظرا لما يترتب عنه من تخفيف لكثير من التعقيدات، وبما يحققه من تخفيف العبء على الوزراء في قيامهم بمهامهم، إلا أنه اتضح بعد طول تجربة أنه لم يحقق على المستوى العملي ديمقراطية الإدارة بصورة جيدة.[12] 

* تقدير المركزية الإدارية:
مزايا النظام المركزي: للمركزية الإدارية جملة من المزايا يمكن حصرها فيما يلي:
أ- من الناحية السياسية: إن النظام المركزي يبعث على تقوية نفوذ السلطة المركزية و فرض هيمنتها على مختلف أجزاء الإقليم و المصالح و تحكمها في زمام الأمور.[13]
ب- من الناحية الإداريةيؤدي النظام المركزي إلى تحقيق المساواة بين الأفراد المتعاملين مع الإدارة على اختلاف مناطقهم، فالتحيّز لا يتصور أن يسود إذا ما طبق هذا النظام. لأن سلطة القرار تم تركيزها ومن ثمّ فلا مجال للتمييز من حيث الأصل بين المقيمين في العاصمة مثلا و غيرها من المناطق.
إنّ النظام المركزي هو أقرب إلى تحقيق العدالة من الزاوية الإدارية لأنه يضمن تجانسا في العمل بحكم تركيز السلطة، فشروط الانتفاع بخدمة ما وإجراءاتها تظل واحدة بالنسبة لجميع المتعاملين مع الإدارة، لذلك أشار Charles Brun أنّ عدم التركيز كصورة من صور المركزية يؤدي إلى وضوح في العمل و توحيد لنمطه...

ج- من الناحية الماليةإذا نظرنا للنظام المركزي من الناحية المالية نراه أفضل الأنظمة في مجال اقتصاد المال لأنّه يقلل إلى أبعد الحدود من ظاهرة تبديد النفقات العامة، خاصة وأنّه ثبت بالدليل القاطع أنّ الاستقلال المالي قد ينجم عنه ظاهرة الإفراط أو المبالغة في الصرف مما يؤثر سلبا على الوعاء المالي للدولة.

عيوب النظام المركزي:   
رغم ما يتمتّع به النظام المركزي من مزايا سبق ذكرها، إلا أنّه يعاب عليه خاصة:
أ- من الناحية السياسية:  إنّ تفرد الوزراء بسلطة اتخاذ القرار، وإن كان يؤدي كما رأينا إلى تقوية نفوذ السلطة المركزية، وبسط هيمنتها على مختلف أجزاء الإقليم و بشأن كل صغيرة و كبيرة، إلا أن ذلك سيتبعه دون شك حرمان السلطة الشعبية أو المنتخبة من المشاركة في صنع القرار و تسيير الشؤون المحلية.[14]

ب- من الناحية الإدارية: إن تطبيق النظام المركزي في الواقع العملي ينجز عنه حالة من الاختناق في الوسط الإداري بسبب الإجراءات و كثرة الملفات و تركيز السلطة بيد شخص واحد أو مجموعة أشخاص، الأمر الذي ينتج عنه انتشار ظاهرة البيروقراطية بالمفهوم السلبي. وفضلا عن ذلك فإن النظام المركزي يخلف حالة من التجاهل التام للحقائق و المعطيات المحلية، فالوزير حين يصدر قرار يخص منطقة معينة قد لا يكون عالما بكل شؤون هذه المنطقة المعنية بالقرار


EmoticonEmoticon